بأمر من جلالة الملك، شكّل رئيس مجلس الوزراء، لجنة مكونة من معالى حسن الكاتب بك وزير البلاط، والسيد إحسان هاشم محافظ القدس، والسيد شكرى المهتدى المستشار القانونى لمجلس الوزراء، لمناقشة الموضوع مع ثلاثة من أعضاء الوفد القبطى وهم: المستشار إسكندر حنا دميان والسفير ديمترى رزق والأستاذ إستفان باسيلى، فى مقر مجلس الوزراء صباح الإثنين الموافق 27 مارس 1961م، وانضم إليهم مجموعة من كبار قضاة المملكة الأردنية. وقد إنعقد الاجتماع فى موعده، وبدأ الوفد القبطى حديثه بالاعتراض على صلاحية مجلس الوزراء فى إصدار قرار للفصل فى ملكية الدير أو إحداث أى تغيير فى وضعه الراهن، حيث أن دير السلطان من ضمن الأماكن المقدسة التى طبق عليها معاهدة برلين الدولية بشأن الستاتوكو. بعد أن استمعت اللجنة الأردنية لمناقشات الوفد القبطى، بدأت اللجنة فى دراسة كل الوثائق والمستندات والحجج الموجودة لدى الأقباط والمستندات والحجج الموجودة لدى الأحباش فى جلسات خاصة. وأخيراً تم الاتفاق على أن يعود الوفد القبطى إلى الاجتماع باللجنة الأردنية فى موعد قريب سيخطر به.
ولم يفت الوفد القبطى أن يشير فى أحاديثه مع اللجنة الأردنية المُشكّلة، إلى ما فى كنيستى الملاك ميخائيل والأربعة الأحياء غير المتجسدة من أدلة مادية تقطع بأن دير السلطان ملك للأقباط، وهى كما يلى:
- أنه يوجد بحجاب كنيسة الأربعة الأحياء غير المتجسدة، فى أعلى باب الهيكل كتابة باللغتين العربية والقبطية محفورة ومطعمة بالعاج، نصها: "السلام لهيكل الله الآب سنة 1103 للشهداء" أى سنة 1387م.
- أنه بأعلى باب هيكل كنيسة الملاك ميخائيل نقشت بالطريقة نفسها العبارة التالية: "عمل برسم الملاك ميخائيل بالقدس الشريف، عوض يا رب من له تعب" ويليها تاريخ صنع الحجاب مدوناً بعلامات كان يستعملها الأقباط قديماً بدلاً من الأعداد، وترجمتها كالآتى:
العلامة الأولى وتُشبه حرف "ط" تعنى8.
العلامة الثانية وتُشبه حرف "لا" تعنى 50.
العلامة الثالثة وتُشبه رقم "20" تعنى 400.
العلامة الرابعة وتُشبه حرف "د" وتحته كسرة تعنى 1000.
العلامة الخامسة هى " m " وهى إختصار لكلمة مارتيروس وتعنى "الشهداء".
فيكون تاريخ صنع الحجاب هو سنة 1458 للشهداء، التى توافق 1742م. (أنظر كتاب الدرة النفيسة فى حسابات الكنيسة- القمص عبد المسيح المسعودي البراموسى). ولما كان الأحباش يجهلون اللغتين القبطية والعربية فمن غير المعقول أن يكتبوها فى كنيستهم، كما أن الزخارف والنقوش والصلبان والأيقونات القبطية الأثرية، كلها تنطق بأن أصحابها أقباط.
وبعد عدة أيام، قامت فيها اللجنة الأردنية بدراسة وتحليل الوثائق والحجج والمستندات التى لدى الطرفين (القبطي والحبشي) قانونياً، فتكشف للجنة أن جميع الوثائق والمستندات التى لدى الأقباط سليمة وقانونية ليس ما فيها أدنى ريب من أن ملكية دير السلطان هى للأقباط وليس للأحباش كما أدعوا. بعد هذه الفترة دُعى إلى مكتب رئيس الحكومة الأردنية، اللجنة الموفدة من قداسة البابا كيرلس السادس بصحبة نيافة الأنبا باسيليوس، وتلا رئيس الحكومة عليهم البيان التالى: "أن الحكومة الأردنية قد قررت تجميد قرار مجلس الوزراء الصادر فى 22 فبراير سنة 1961م، بشأن تسليم دير السلطان للأحباش وإعادة الوضع فيه إلى ما كان عليه، وأخذ مفاتيح الدير من الأحباش وتسليمها للأقباط، وفى حالة إمتناع هؤلاء عن تسليمها تُنزع الأقفال الجديدة التى كانت قد وضعت تنفيذاً للقرار المذكور وأعطيت مفاتيحها للأحباش، وتعاد الأقفال القديمة التى مازالت مفاتيحها بيد الأقباط، مع إزالة كل تغيير حدث فى الدير خلال الفترة التى كان فيها بيد الأحباش وذلك ريثما يتسنى للجنة بحث هذا الموضوع، وأَبلغ وزير البلاط الملكى هذا القرار تليفونياً – فى حضور الوفد- إلى محافظ القدس وكلّفه بالمبادرة إلى تنفيذه".
دم الوفد بإسم قداسة البابا كيرلس السادس، شكره إلى جلاله الملك وحكومته وقضائه، وعادوا فى نفس اليوم إلى القدس، حيث توجهوا لمقابلة محافظ القدس طالبين الإسراع فى تنفيذ القرار، فأخبرهم أنه قد أبلغ المطران الحبشي بالقرار المذكور وأتخذ الترتيبات اللازمة لتنفيذه. وما كاد نبأ إعادة الدير للأقباط يصل إلى علم الطائفة القبطية بالقدس، حتى غمرتهم فرحة، وتجمعوا رجالاً ونساءً فى ساحة البطريركية مهللين بالهتاف حتى ساعة متأخرة من الليل. أما الأحباش الذين خاب أملهم بعدما أعتقدوا أن الأمر قد إستتب لهم نهائيا، فقد دقوا أجراس دير السلطان بالطريقة الحزاينى وأعلنوا الحداد فى بيان أصدروه فى اليوم التالى جاء فيه: "نحن طائفة الأحباش فى القدس، نعلن أننا لا عيد لنا فى هذا العيد الفصح المجيد، لأننا فى حزن عظيم، نظراً لأن دير السلطان المعترف به لنا أُنتزع منا. لهذه الأسباب دُقت أجراس الحزن ولا تزال تدق حزناً على ما جرى، أننا على أثر ذلك قد منعنا إخواتنا الأحباش من جميع الأقطار الحضور إلى هذا العيد". فى اليوم التالى (الاثنين 3 أبريل)، طلب المحافظ من مطران الأحباش إستلام كل الأشياء التى وضعها فى الدير أثناء وجودهم فيه، فرفض، وعندئذ أوفد لجنة لجردها فى محضر خاص ونقلها إلى مخفر الشرطة، إلا أنه تبين أثناء عملية الجرد أن الأحباش رفعوا بعض الأيقونات القبطية من كنيستى الدير وإستبدلوا قناديل الأقباط بقناديلهم، ونزعوا العاج من الكتابات الموجودة على حجابى الهيكل محاولين طمسها ونزعوا اللوحة المكتوب عليها وقلبوها، ومحوا كل ما يثبت أنه يمت بصلة للأقباط. وبعدما تمت إجراءات إستلام الدير، عاد الوفد القبطى بسلامة الله إلى القاهرة.
الأحباش يستولون على دير السلطان
عقب حرب 1967م -
فى أعقاب حرب يونيو 1967م، أثار الأحباش مشكلة دير السلطان من جديد، وهذه هى عادة الأحباش، أن يستغلوا بكل طاقتهم كل الظروف حتى السياسية منها، كما لا يتورعوا بالإستعانة بالشخصيات الأجنبية وأسلوب الدسائس، هادفين الاستيلاء كلية على دير السلطان، ومُعاداة إخوتهم الأقباط فى سبيل الحصول على كسب ليس له حق فيه. وبعد أن إنتهت حرب يونيو 1967م، تعهدت السلطات الاسرائيلية، أمام جميع رؤساء الأديان والطوائف المختلفة بإحترام المعاهدة الدولية التى أقرت مبدأ الوضع الراهن للأماكن المقدسة Status Quo وتشمل: كنيسة القيامة- قبر السيدة العذراء الجثسيمانية- دير السلطان- كنيسة المهد ببيت لحم . وكان الوضع قد إستقر على أن دير السلطان هو ملك خالص للأقباط، أما الأحباش فهم مجرد ضيوف فيه، ويخضعوا للنظام المتبع فى الدير، وقد أقرت الحكومة الإسرائيلية ذلك دون الحاجة إلى إعادة البحث فى هذا الموضوع من جديد.
مؤامرة دنيئة:
كانت كل الأمور قد إستقرت حتى أسبوع الآلام من عام 1970م، لكن فى هذا الأسبوع وقعت مؤامرة دنيئة لم يُكشف عن تفاصيلها حتى الآن. ففى ليلة عيد القيامة وبالتحديد فى 25 أبريل عام 1970م، أحاط العشرات من رجال البوليس وحرس الحدود الإسرائيليون مسلحين بكافة أسلحتهم مقر البطريركية القبطية الأرثوذوكسية بالقدس ودير السلطان، مُدعين إنها مجرد إجراءات أمنية عادية خلال فترة الإحتفال بعيد القيامة. وفى أثناء الإحتفال بقداس العيد بكنيسة القيامة، حيث كان كل الأقباط والرهبان والكهنة يشاركون نيافة الأنبا باسيليوس فرحة هذا العيد فى صلاة القداس، قامت السلطات الإسرائيلية بتغيير أقفال الأبواب المؤدية إلى كنيسة الأربعة الأحياء غير المتجسدة، وتغيير أقفال باب كنيسة الملاك ميخائيل الموصل إلى ساحة القيامة، وقاموا بوضع الحواجز الحديدية أمام أبواب الدير ومنعوا الأقباط من الاقتراب من الدير أو الذهاب إلى مقر البطريركية عبر الطريق المؤدى إليها منه. كما آثار الجنود حالة الفزع بين الشعب القبطى. وقد حاول نيافته الإتصال فوراً بالسلطات الإسرائيلية العليا، ومطالبتهم بوقف هذا التعدى على الأماكن المقدسة، والمحافظة عليها طبقاً للمعاهدة الدولية التى أقرتها وتعهدت بها السلطات الإسرائيلية، لكن باءت كل الجهود بالفشل. وقد قامت السلطات الإسرائيلية صباح اليوم التالى بتسليم أبواب الدير للأحباش. وبناء على ما حدث، قامت البطريركية برفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الإسرائيلية ضد الحكومة ووزيرى الشرطة والأديان الإسرائيلين وضد المطران الحبشى، مطالبة إياهم بعودة المقدسات المغتصبة، وتحميلهم مسئولية أى تلف أو فقدان للآثار التاريخية المقدسة داخل هذا الدير الذى ينطبق عليه مبدأ الوضع الراهن للأماكن المقدسة. وقد قامت محكمة العدل الإسرائيلية بمعاينة الدير وما حدث فيه، وقدمت البطريركية القبطية كل الوثائق والحجج الموثقة مع الفرمانات والسجلات الخاصة بملكية الأقباط لدير السلطان. وبعد أن درست المحكمة كل ذلك بدقة، أصدرت قرارها رقم " 109/71 " فى 16 مارس سنة 1971م، وفيه أدانت هذا التعدى، وقالت: " إن ما حدث كان ضد الأمن والنظام العام، وأمرت رئيس الشرطة بإعادة المقدسات المغتصبة إلى أصحابها قبل 6 أبريل سنة 1971م، كما أصدرت حكمها بتوقيع غرامة مالية على كل من وزير الشرطة الإسرائيلي ومطران الأحباش". لكن السلطات الإسرائيلية لم تستجب لقرار المحكمة، بل أصدرت قراراً مؤقتاً فى 28 مارس سنة 1971م، يقضى بتشكيل لجنة وزارية تقوم بدراسة هذا الموضوع وإبقاء الوضع على ما هو عليه حالياً، وتقديم نتائج هذه الدراسة إلى مجلس الوزراء فى جلسته المقبلة. وحتى اليوم وبعد مرور قرابة ثلاثون عاماًَ على صدور هذا القرار، لم تُقدم اللجنة الوزارية نتائج دراستها إلى مجلس الوزراء الإسرائيلي. ومازال الوضع على ما هو عليه، وما زالت الكنيسة القبطية تعرض قضيتها هذه أمام كافة الجهات الرسمية. ويبذل نيافة الحبر الجليل الأنبا أبراهام، مطران الكرسى الأورشليمى والشرق الأدنى، جهود مضنية فى سبيل عودة الدير للكنيسة القبطية. وقد ذكر رئيس الوزراء المصرى الأسبق الراحل " كمال حسن على" فى كتابه "محاربون ومفاوضون" : (إن إعادة الدير لملاكه الأصليين، يجب أن يكون لها وزنها عند التفكير فى ميزان تطبيع العلاقات المصرية- الإسرائيلية، ولعل تسليم الدير للأقباط الأرثوذكس يُعد تنفيذاً لأكثر من ستة أحكام صدرت من المحكمة الدستورية العليا فى إسرائيل، بأحقية الكنيسة القبطية المصرية فى الدير. إن منح الحكومة الإسرائيلية هذا الدير للأحباش الأثيوبيين وهو شئ لا تملكه، يعتبر خرق فاضح للسياسة الإسرائيلية).