بمساعدة المطران Gobat والقنصل Finn
قد مؤتمر برلين فى يونيو سنة 1878م، والذى أسفر عن عقد معاهدة فى يوليو من نفس العام، سُويت فيها مسألة الشرق الأدنى برمتها. ونصت المادة 62 من تلك المعاهدة على الحرية الدينية بأوسع معانيها، وكلفت حق ممارسة الطقوس للجميع، ومنعت وضع عراقيل فى النظام الكهنوتى للطوائف المختلفة، أو فى علاقة هذه الطوائف برؤسائها الروحانيين، كما إعترفت بحق ممثلى الدول فى تركيا سواء كانوا دبلوماسيين أو قنصليين فى الحماية الرسمية للكنيسة والحجاج والرهبان من جميع الجنسيات، والمؤسسات الدينية والخيرية وغيرها التابعة لهم فى الأماكن المقدسة وسواها، وإشترطت عدم المساس بالحالة الراهنة Status Quo فى الأماكن المقدسة. ويعنى هذا الشرط الأخير أنه لا يجوز للحكومة العثمانية أن تعتدي على حقوق أية طائفة، سواء كان ذلك بإلغاء السند القانونى الذى أقرها أو أنشأها، وثيقة كان أم عادة Coutume أو بمنح وثائق جديدة تنقل هذه الحقوق من طائفة إلى أخرى، كما لا يجوز للسلطات التركية أن تتخذ موقفاً سلبياً من أية طائفة أو مجموعة من الطوائف تعتدي على حقوق طائفة أو طوائف أخرى فى الأماكن المقدسة.
وتعتبر معاهدة برلين من المعاهدات الدولية الدائمة perpetuelle شأنها فى ذلك شأن سائر الاتفاقيات التى لم تجر العادة بتحديد أجل لها، فبقيت أحكامها سالفة الذكر نافذة المفعول، والتزمت بها الدول التى خلفت تركيا على الأرض المقدسة، فلم تتعرض لأى من الأوضاع التى كانت قائمة فى الأماكن المقدسة وقت توقيع تلك المعاهدة، بل إحترمتها كل الإحترام وحافظت عليها، وجعلت جمعية الأمم النظر فى المنازعات المتعلقة بحقوق الطوائف من إختصاص لجنة دولية يعتمدها مجلسها، وحظرت الحكومة البريطانية المنتدبة على الأرض المقدسة على المحاكم أن تنظر فيها، كذلك أقرت هيئة الأمم المتحدة مبدأ المحافظة على الوضع الراهن فى الأماكن المقدسة كما سيتضح فيما بعد.
بعد إنقضاء عام على توقيع هذه المعاهدة، عاد الرهبان الأحباش إلى مشاغباتهم، ونما ذلك إلى علم البابا كيرلس الخامس، فكتب إلى مطران الكرسي الأورشليمي خطاباً بتاريخ 19 مارس سنة 1879م، يوجه نظره إلى الأمر الملكي الحبشي الصادر فى سنة 1861م والمتضمن أنه إذا وُجد بدير السلطان قسيس أو علماني من الأحباش ويتضح أنه من المفسدين فلا يصير قبوله فى الدير (مجموعة الوثائق- الوثيقة رقم 15- الأنبا تيموثاوس). والظاهر أن المطران لم يستطع تنفيذ هذا الأمر، لأن الرهبان المفسدين، كانوا يستعينون بالأجانب وأن مشاغباتهم تكاد تكون يومياً (أملاك القبط بالقدس الشريف- جرجس فيلوثاؤس عوض).
ويبدو أن النظر فى هذا الموضوع لم يقتصر على مجلس إدارة لواء القدس، بل اتصل أمره بنظارة العدلية والمذاهب الجليلة بالأستانة، وكذا الصدارة العظمى ، كما أشارت إلى ذلك المضبطة الصادرة من مجلس اللواء إلى هاتين الجهتين بتاريخ 29 ربيع آخر سنة 1309هـ الموافق 27 أكتوبر – رقم 18، وبتاريخ 14 نوفمبر- رقم 22، وفى المضبطة المذكورة يشير المجلس إلى ما تلقاه "من التحريرات العليا المؤرخة 13 يوليو سنة 1309هـ- رقم 23 الباحثة عما سبق الإعراض عنه بشأن مداخلة الحبش الواقعة بدون وجه حق أثناء توسيع باب دير القبط، وأخيراً تأمرون بإجراء التحقيقات بحقيقة الأمر وعرض النتيجة. وبناء عليه إمتثالاً لأمركم العالى، قد صار جلب الطرفين أمام المجلس لشرح دعواهم وتقديم الأوراق والمستندات المثبتة لها، فإدّعى الأحباش أن الدير المذكور هو خاص بهم وأنهم يقيمون به منذ الفتح الإسلامى، وأن مستنداتهم وأوراقهم ببلاد الحبشة ولا يوجد بأيديهم هنا شئ منها (هنا وقع الأحباش فى مأزق خطير، حيث أنهم قد قالوا فى مجلس سابق أن مستندات ملكية الدير قد حرقها الأرمن خوفاً من العدوى بالكوليرا)، وأما الأقباط فقابلوا هذا الادعاء بإيضاح أن الدير منذ القدم خاص بهم، وقدموا أوراقاً ومستندات تثبت ذلك، وبالتحقق منها وُجدت صحيحة، كما قدم الأقباط أيضاً حجة شرعية معطاة لهم من محكمة القدس الشرعية بتاريخ 13 شوال سنة 1098 هـ الموافق 22 أغسطس سنة 1686م، تثبت أن طائفة القبط قد عمرّت بعض محلات كانت خربة من ديرهم المعروف بدير السلطان، إستناداً إلى الإذن المعطى لهم بموجب حجة شرعية مؤرخة فى منتصف جمادى الآخر سنة 1098هـ، ووجد بالحجة المعطاة من محكمة القدس بتاريخ 11 جمادى الآخر سنة 1236هـ الموافق 19 مارس 1821م (بناء على البيولوردى) المعطى من المرحوم سليمان باشا والى الشام، الذى وجد فيه أن الأقباط مأذونين بإجراء التعميرات اللازمة بدير السلطان المذكور الذى بتصرف (ملك) الأقباط، وذلك بموجب دفتر الكشف الأول والإذن الصادر من الوالى المشار إليه. كما وأنه أطلعنا أيضاً على حجة شرعية من محكمة القدس بتاريخ5 ربيع أول سنة 1280هـ، مذكوراً فيها بثبوت تصرف الأقباط وذلك عقب محكمة شرعية جرت بالمجلس الكبير، بشأن منازعة تكونت بوقتها بين القبط والحبش، ومحرر أيضاً بها أن قفل باب دير السلطان المذكور تبدل مفتاحه وتسلّم للقبط. وصار أيضاً مطالعة أمر سامى تاريخه 12 جمادى الآخر سنة 1280هـ نمرة 192 كان ورد بوقتها جواباً عن العريضة المؤرخة فى 11 ربيع أول سنة 1280هـ بها مضبطة من المجلس الكبير المذكور حاوية صور فصل تلك المنازعة مسطراً فيها بأنه تبين أن الأقباط هم أصحاب الحق أولاً وآخراً، وأن ما جرى من تجديد القفل وتسليم المفتاح للأقباط هو مناسب وفى محله، وأن مضبطة المجلس الكبير تقيدت فى ذلك الحين فى الديوان الهمايونى. بناء على المستندات والحجج الشرعية التى بيد الأقباط فإن الدير المذكور هو بتصرف الأقباط بصورة مستقلة". (مجموعة الوثائق رقم 18- الأنبا تيموثاوس).
لم يكف الأحباش عن مشاغباتهم للأقباط، فاضطر مطران الأقباط إلى إرسال برقية للسلطات التركية فى الأستانة، شاكياً من تعديات الأحباش المقيمين ضيوفاً بدير السلطان بقصد إستخلاص الدير لهم، وإستغاث فى الوقت نفسه بزعماء القبط فى مصر، والتمس هؤلاء من الخديوى أن يتوسط فى الأمر، فكتب إلى الصدر الأعظم طالباً منع تدخل الأحباش فى الدير، والمحافظة على حقوق الأقباط فيه. ولقى توسط الخديوى ما يستحقه من عناية، فأرسل فوراً الصدر الأعظم إلى متصرف القدس كتاباً بتاريخ 18 يناير سنة 1894م. الموافق 1309هـ نمرة 30، يشير فيه إلى المضبطة الواردة من مجلس إدارة القدس، رداً على الإستعلام الخاص بالشكايات من مطران الأقباط وإلى مكاتبة الخديوى له، ثم يقول أنه ثبت من إتصاله بوزارة العدلية تصرف القبط بالدير المذكور بموجب حجج وأوراق رسمية، وأنه عندما حدثت المنازعة بخصوص خطف المفتاح سنة 1280هـ (1863م)، وحسمت بتسليم مفتاح جديد للقبط لم يُخرِجوا الأحباش من الدير، وحيث أن أساس شكاية الأقباط الآن هو تعديات الأحباش المستمرة وما يقومون به من أعمال مخزية فى كنيسة الدير، فأنه بحسب إشعار نظارة العدلية يلزم التوفيق بين الطرفين بشرط أن يراعى الأحباش الأدب ولا يزعجون الأقباط ويضايقونهم (مجموعة الوثائق- وثيقة رقم 20- الأنبا تيموثاوس). ويُستفاد من هذا الخطاب أن الصدر الأعظم اتخذ من عدم قيام الأقباط بإخراج الأحباش من الدير سنة 1863م، بعد واقعة خطف المفتاح ذريعة لرفض طلب طردهم من الدير، وألقى باللوم على الأقباط (وهذا للشهادة حق)، وأنه لذلك لا يسعه سوى أن ينصح بالتوفيق بين الطرفين.
وفى سنة 1899م، تنيح الأنبا باسيليوس الكبير بعد 43 عاماً قضاها مطراناً للكرسى الأورشليمى، عمّر خلالها العديد من الكنائس والأديرة فى الأرض المقدسة، وعانى كثيراً بسبب ما تم من منازعات حول دير السلطان.