بمساعدة المطران Gobat والقنصل Finn
كان قد انتهز القنصل Finn فرصة شائعة راجت بين الأحباش، بأن الأقباط سيبيعون دير السلطان للروس، فكتب إلى وزير الخارجية البريطانية كتاباً بتاريخ 27 مايو سنة 1858م، يقول فيه: "... إن الجالية الحبشية بالقدس قد انتابها ذعر شديد بسبب ما أشيع من أن الروس على وشك شراء دير الأحباش (يقصد دير السلطان) من الأقباط الذين لا حق لهم فيه وبذلك يُطرد الأحباش ..." .. لقد كان مجرد كذب محض، لأن الذى ساوم الروس فى بيع الحاكورة التى بجوار دير السلطان (سبق أن تكلمنا عن هذه الحاكورة) هو القس جرجس، وكان الإتفاق على بيع الحاكورة وليس دير السلطان كما أُشيع.
واقترح القنصل Finn على الأحباش تقديم إلتماس إلى الباب العالى بتركيا للحصول على وثيقة يعترف فيها الباب العالى بحق الأحباش فى دير السلطان، لتحريك موضوع دير السلطان برمته من جديد. فلجأ الأحباش إلى وسيلتهم المعروفة وخطفوا مفتاح كنيسة الدير مرة ثانية لإلقاء عبء الإثبات على الأقباط، فأتاح ذلك للقنصل Finn فرصة الكتابة إلى رئيسه المباشر السير Henry Bulwer السفير البريطاني لدى الباب العالى، على أمل أنه إذا تبنى هذا الاقتراح، وهو الخبير بجو الأستانة، كان ذلك أدعى إلى موافقة وزارة الخارجية البريطانية على هذا الاقتراح، وفيما يلى ما جاء فى كتابه المذكور وهو بتاريخ 11 مارس سنة 1862م: "أتشرف بأن أخبر سعادتكم نبأ مشاجرة حدثت مؤخراً فى يوم أحد أثناء القداس فى كنيسة مشتركة بين الأقباط والأحباش داخل دير الأحباش (يقصد دير السلطان)، وهذه المشاجرات تحدث أحياناً وخاصة بشأن المفاتيح التى كانت من نسختين ثم لجأ الأقباط أخيراً إلى نزع الأقفال القديمة ووضع أقفال جديدة بدلاً منها..."
وفى 22 ذى القعدة سنة 1279هـ الموافق 9 مارس سنة 1863م، نظر مجلس القدس الكبير فى النزاع الخاص بالمفاتيح، وتقول مضبطة المجلس: "صار تلاوة العرض المقدم من باسيليوس مطران الأقباط الموجود بالقدس الشريف يتضمن أن ميخائيل الحبشى، فى العام الماضى بصورة التعدى، اختطف مفتاح الكنيسة الكائنة فى داخل دير السلطان بالقدس الشريف بإتصال القمامة الكبيرة (كان الحكام يُطلقون على كنيسة القيامة "القمامة")، مفاتيحها بأيديهم من قديم الزمن ويستدعوا إستلام المفاتيح المذكورة، وبحضور الأقباط والحبش بالمجلس فالقبط قد أظهروا من أياديهم إعلام شرعى مؤرخ فى 16 ربيع أول سنة 1267هـ وأيضاً مضبطة مؤرخة فى 11 محرم سنة 1267هـ وحجة مؤرخة فى أول شهر ربيع الثانى سنة 1267هـ وعرض محضر من وجوه ومعتبرين بالقدس الشريف موجودة بأيديهم، يتضمنوا بأن من قديم الزمان يعلمون أن الكنيسة الكائنة داخل دير السلطان، مفاتيحها بيد القبط، ففى الأوقات المعينة والأزمنة المعلومة القبط يمكنّوا طائفة الحبش المذكورين بإجراء آنيتهم (أى إجراء الخدمة الدينية) بالكنيسة المذكورة. وبمعرفة القبط أيضاً ينصرف الشمع والزيت للكنيسة المرقومة كما سطر ذلك فى الأوراق المرقومة التى بأيديهم، وبحسب الواقع فالمفاتيح المذكورة هى من قديم الزمان بيد الأقباط المرقومين، وإغتصاب الحبش للمفاتيح هو تعدى صرف حيث لم يكن لهم أدنى حق فى ذلك. وحيث قد صارت الإفادة إلى الحبش بإعطاء المفاتيح للقبط وتعنتوا، بحسب قرار المجلس يقتضى تسليمهم المفاتيح، فكذلك أن حسن التنبيه القطعى لتسليم مفاتيح الكنيسة للأقباط، وأن بقوا الأحباش متعندين عن تسليم المفاتيح فيصير رفع القفول الموجودة الآن بمعرفة الشرع الشريف وذات من المجلس (أى أحد الأعيان الممثلين فيه) وواحد من ملة الأرمن، ووضع قفوله خلافها وإعطاء مفاتيحها للأقباط، وتحرر نسختين دفاتر (كشوف) للأمتعة الموجودة بالكنيسة، مع إجراء التنبيه على طائفة الحبش بعدم التعرض للأقباط. ولذلك صار تنظيم هذه المضبطة والأمر لمن له الأمر". فى ذيل هذه المضبطة توجد توقيعات وأختام نقيب الأشراف وقاضى القدس وأعضاء عن ملل الروم والأرمن واللاتين واليهود ومديرى الأوقاف والزراعة وغيرهم. (مقتبس من كتاب: أملاك القبط فى القدس الشريف- جرجس فيلوثاوس عوض).
بعد هذه المنازعات بفترة قليلة، كانت العلاقة بين الحبشة ورؤسائها ومصر ورؤسائها فى مجراها الطبيعي، بدليل مظاهر التكريم التي أبداها والى مصر لإثنين من كبار رجال الحبشة مرا بمصر فى طريقهما إلى القدس، فأرسل الوالي معهما ضابطاً مصرياً كبيراً وبعض الجنود كمرافق لهما فى رحلتهما، ولإشعار من يعنيهم الأمر فى القدس وخاصة الأقباط بالأهمية التى يعلّقها الوالى على إكرامهما واستضافتهما فى الدير القبطي. فى تلك الفترة أو قبلها بقليل، كان قد تنيح البابا الأنبا بطرس الجاولى، وأُنتخب بعده القمص داود، ودُعى بالأنبا كيرلس الرابع (أبو الإصلاح)، هذا وقد لعب رهبان الأحباش دوراً قذراً للحيلولة دون وصول القمص داود إلى كرسى البطريركية، نظراً لتشدده فى إثبات حق ملكية الأقباط فى دير السلطان (تاريخ كيرلس الرابع- الشماس كامل صالح نخلة).
وفى 29 ذى القعدة سنة 1279هـ الموافق 16 مايو سنة 1863م، حُررت حجة شرعية بمعنى ما ورد فى المضبطة سالفة الذكر الى أحالت الأمر إلى الشرع الشريف لإجراء ما يلزم. ولما كان الأحباش رغم كل هذا قد إمتنعوا عن إعادة المفاتيح إلى الأقباط مدعين أنهم سلموها للمطران مع الأشياء التى كانوا قد أخذوها من الكنيسة، فقد قامت السلطات المختصة بنزع الأقفال القديمة ووضعت بدلاً منها أقفالاً جديدة سلمت مفاتيحها إلى الأقباط. أرسلت السلطات بالأستانة فى 2 صفر سنة 1280هـ الموافق 19 يوليو سنة 1863م خطاباً إلى متصرف القدس يشير إلى الإجراءات التى أتبعت مع الأحباش ويوافق عليها، جاء فيه:"... ولكون الأحباش ما سمعوا التنبيهات التى جرت برد تلك المفاتيح، فقد صار تبديل أقفال تلك الكنيسة بأقفال جديدة لأجل إبقاء مفاتيحها فى يد الطائفة القبطية كما فى السابق، وأن هذه المفاتيح قد سُلّمت إلى مطران الأقباط الذى حضر خصيصاً من مصر لهذه المادة (مجموعة الوثائق- وثيقة رقم11- الأنبا تيموثاوس).
وفى غرة ربيع أول سنة 1280 هـ (13 أغسطس 1863م)، وفى 5 ربيع أول سنة 1280هـ، تحررت حجة شرعية ومضبطة على التوالى تناولت تفصيل ما اتخذ من إجراءات، انتهت بخلع الأقفال ووضع غيرها بدلاً منها وتسليم مفاتيحها إلى القس عبد السيد وكيل المطران الذى طلب من القاضى تحرير وتسطير وتسجيل ذلك ليكون بيد المطران المرقوم ومن بعده من مطارنة الأقباط ووكلائهم المتكلمين على الدير المذكور سنداً لوقت الحاجة وحجة قاطعة لدى الإحتجاج، فأجابه لمطلوبه (وثيقة رقم 12، 13) فى غضون ذلك نُقل القنصل الانجليزى Finn من القدس ، وخلفه القنصل Moore ، فأرسل بتاريخ 28 سبتمبر سنة 1863م، إلى السفارة البريطانية بالأستانة كتاباً بشأن موضوع الدير، قال فيه: "... ولما كان الأقباط قد عرضوا قضيتهم أمام السلطات التركية ولجأ الأحباش إلىّ، فقد طلبت مقابلة خورشيد باشا، بقصد بذل المساعى الحميدة لصالح الأحباش، وعندما عرضت على الباشا الغرض من زيارتى بادرنى بالإستعلام عما إذا كان لدى القنصلية فرمان أو كتاب من الوالى يشير إلى إعطاء تعليمات إلى متصرف القدس (الحاكم المحلى) بالإعتراف بالحماية البريطانية على الأحباش، ولما أجبت بالنفى، قال أن التعليمات العامة التى لديه تصف الأحباش بأنهم رعية تركية، وأضاف سعادته بأنه بناء على هذا لا يستطيع أن يُسلّم بأى تدخل من جانبي لصالح الأحباش... لقد جاء إلىّ الأحباش يشكون من عدم عدالة قرار المجلس، فأخبرتهم بأنه إذا تقدموا إلىّ ببيان عن قضيتهم مع كل الأدلة التى يستطيعون تزويدي بها، فأنني أتكفل بعرضها على سعادتكم مع التوصية اللازمة ولكنهم لم يفعلوا شيئاً...".
وبعد حوالى شهرين من تاريخ هذا الخطاب، وبالتحديد فى 12 جمادى سنة 1280هـ الموافق 24 نوفمبر 1863م، صدر أمر من وزارة الخارجية العثمانية موقعاً من الصدر الأعظم إلى متصرف لواء القدس يشير فيه إلى كتابه المؤرخ 11 ربيع الأول والمضبطة المرفقة به بشأن كيفية تسوية النزاع بين الأقباط والأحباش بخصوص مفتاح الكنيسة التى ضمن دير السلطان فى القدس، ويقول أنه يُفهم من سياق الإشعار أن القبط هم أصحاب الحق أولاً وآخراً، وحيث أنه قد ثبت حقهم هذه المرة أيضاً أمام المجلس، فبناء على هذا إعتمدنا تجديد وتبديل مفاتيح الكنيسة المذكورة وتسليمها إلى القبط، وقد جرى تسجيل المذكرة والمضبطة فى قلم الديوان الهمايونى (ملحق وثيقة رقم13- مجموعة الوثائق- لنيافة الأنبا تيموثاوس).