الأحباش يستعينون بالأجانب
فى أوائل سنة 1850م، وربما قبل أن يذهب القمص داود إلى الحبشة لتسوية الخلاف الناشب بين مطران الحبشة وإكليروسها بسبب إنحرافاتهم الدينية، اتصل ملك وأمراء الحبشة بالمستر Plowden القنصل الإنجليزي هناك طالبين منه أن يكتب إلى زميله القنصل Finn ليبذل مساعيه الحميدة للأحباش فى النزاع الخاص بدير السلطان، فلم يتوان الأخير فى إتخاذ أولى خطواته فى هذا الشأن إلى الفيكونت Palmerston وزير الخارجية البريطاني بخطاب مؤرخ 30 نوفمبر 1850م، جاء فيه ما يلى: "...اقترح بأن يبقى الدير مفتوح للطرفين، وأن يكون المفتاح يُحفظ لدى طرف غير ذى مصلحة مثل متصرف القدس (الحاكم المحلى) أو قنصل بروسيا". ولكن قبل وصول متصرف القدس- خطف الرهبان الأحباش مفاتيح الدير بالقوة- وأصبحت بأيديهم.
ولما كان الأقباط يخشون أن يؤدى تدخل المطران الإنجليكانى وقنصلهم فى القدس إلى استمرار بقاء مفاتيح الدير- التى خطفها الأحباش- فى أيديهم، فقد بادر الأقباط إلى إبلاغ البابا الأنبا بطرس الجاولى، بدور المطران الإنجليكانى فى إثارة الأحباش، فأرسل إليهم كتاباً بتاريخ 17 بابه سنة 1567ش (25 نوفمبر 1850م)، يناشدهم بتهدئة النفوس، وإعادة المحبة بين الأقباط والأحباش. ولما علم الأرمن بالأمر، قدموا مذكرة إلى الوالي تثبت حق الأقباط فى إعادة مفتاح دير السلطان إليهم، فأصدر فى أواخر أكتوبر 1850م أمراً بإعطائه إلى من كان بأيديهم قبل حدوث المشاحنات. وبناء عليه عُمل "عرض محضر" من وجوه القدس وبحضور الشرع الشريف بتاريخ 11 محرم سنة 1267هـ (16نوفمبر 1850م)، جاء فيه ما يلى: ".... أن مفتاح الدير الذى هو بيد الأحباش الآن، وقد خطفوه من يد الأقباط تغلباً، وتوجهوا به لطرف جناب مطران الإنجليز بالقدس الشريف. وحيث أن الأحباش أجروا هذه الحركات الغير مرضية، فبمعرفة الشرع الشريف، يؤخذ المفتاح المذكور من الأحباش ويرتد إلى الأقباط على موجب القديم. فصار عقد مجلس بحضور سعادتلو المتصرف باشا وبحضور الشرع الشريف وأعضاء المجلس ووجوه البلدة، وحضر فى المجلس المذكور وكيل وأختيارية الأرمن وخوارنه الأقباط وحضر الحبش ووكيلهم ميخائيل وحضر ترجمان مطران الإنجليز الخواجة قسطه غرغور. وعند ذلك قرر وكيل الأرمن أن دير السلطان مفتاحه من قديم بيد رهبان الأقباط. فعند ذلك جاء فى المجلس سؤال ميخائيل وكيل الحبش، عن هذا الخصوص، فأجاب بالتصديق على ما قرره وكيل الأرمن، وسُئل: هل يوجد بيد الحبش سندات على قدميه وجود المفتاح بيدهم؟ أو هل عندهم إثبات على ذلك؟ فأجاب أنه لا يوجد مستندات ولا عندهم إثبات على هذه الدعوى. فلذلك حيث ما وُجدت مستندات ولا إثبات من الحبش، جاء سؤال أعضاء المجلس ووجوه البلدة والاختيارية (أعيان وكبار البلدة) فى المجلس: من قديم، ماذا تعلمون، مفتاح هذا الدير بيد من هو؟ وإلى من إنتسابه؟ فأجابوا جميعاً أن الذى نعلمه أن مفتاح الدير المرقوم هو من قديم بيد القبط. فعند ذلك جاء القرار من المجلس حسب الثبوت الشرعي أن يُعطى مفتاح الدير المذكور بمعرفة وكيل الأرمن إلى يد القبط. وقد أُرسلت هذه المضبطة إلى نظارة الخارجية بالآستانة.
فى غضون ذلك، كان القنصل Finn والمطران Gobat ، يبذلان دون يأس جهودهما لصالح الأحباش على النحو الذى أوضحه القنصل تفصيلاً فى كتابه إلى وزير الخارجية البريطانية بتاريخ 9 ديسمبر سنة 1850م، وقد جاء فيه: ".. لا بد أن سعادتكم تعلمون أن القبط والأحباش تجمعهم روابط كنسية، ويطالب الأحباش بالدير والكنيستين اللتين به، وفى أثناء الوباء الذى نُكبت به البلاد أخيراً، قام الأقباط- بناء على تعليمات من بطريركهم فى القاهرة بإحراق وثائق الأحباش والاستيلاء على كافة مفاتيح الكنائس والدير وأقاموا هناك منذ ذلك الحين، مع السماح فقط للأحباش الذين يحضرون للحج سنوياً بالسكنى فى خرائب الدير. ولقد شعر الأحباش ببعض الأمل لدى وصول المطران Gobat ، الذى لما قابلوه أعطوه خطابات من ملكهم (كان يحدث أحياناً أن يتخذ بعض حكام المقاطعات الكبرى فى الحبشة لقب نجاشى أو ملك فيتصادف وجود ثلاثة ملوك أو أربعة يحكمون فى الوقت نفسه (دائرة المعارف البريطانية- المجلد الأول الصفحة 75 ) الرأس عالى وخطاب توصية لى من المستر Plowden قنصلنا لدى الحبشة، وقد عمل النائب البطريركى القبطي والبطريرك القبطي بالقاهرة على إتباع وسائل العنف مع الأحباش ورفض دخولهم إلى الكنيسة إلا فى القليل النادر، وأخيراً أشار عليهم سيادته بتلك الخطة التى نفذوها بإستيلائهم على مفاتيح الدير بعد القداس، بينما كان المطران القبطي متجهاً إلى ناحية أخرى، وكانوا يستهدفون بذلك لا الإستحواذ على المفتاح فحسب، ولكن أيضاً لإلقاء عبء إثبات الحق على القبط. وتلت ذلك المناسبات التى اشتركت فيها حسبما ذكرت تفصيلاً فى رسالتى الأخيرة إلى سعادتكم ... وأخيراً فإننى لاحظت أن النفوذ الانجليزى قد أُعترف به فى تلك المداولات نتيجة لخطاب الرأس عالى لمطراننا Gobat الذى تربطه به معرفة قديمة وكتاب المستر Plowden لى وبنوع خاص، لأن سيادة المطران كرر مراراً التأكيد بأن الملك الرأس عالى قد ألتمس من حكومة جلالتها وضع الأحباش بالقدس تحت حمايتها السياسية، وقد أبلغنى سيادته أنه يحاول تحقيق هذه الغاية عن طريق رئيس أساقفة كانتربرى" (الوثيقة رقم8- من مجموعة الوثائق). وقد أجاب Plamerston بالموافقة على ما أُتخذ من خطوات فى هذا الشأن.
بعد هذه المنازعات بفترة قليلة، كانت العلاقة بين الحبشة ورؤسائها ومصر ورؤسائها فى مجراها الطبيعي، بدليل مظاهر التكريم التي أبداها والى مصر لإثنين من كبار رجال الحبشة مرا بمصر فى طريقهما إلى القدس، فأرسل الوالي معهما ضابطاً مصرياً كبيراً وبعض الجنود كمرافق لهما فى رحلتهما، ولإشعار من يعنيهم الأمر فى القدس وخاصة الأقباط بالأهمية التى يعلّقها الوالى على إكرامهما واستضافتهما فى الدير القبطي. فى تلك الفترة أو قبلها بقليل، كان قد تنيح البابا الأنبا بطرس الجاولى، وأُنتخب بعده القمص داود، ودُعى بالأنبا كيرلس الرابع (أبو الإصلاح)، هذا وقد لعب رهبان الأحباش دوراً قذراً للحيلولة دون وصول القمص داود إلى كرسى البطريركية، نظراً لتشدده فى إثبات حق ملكية الأقباط فى دير السلطان (تاريخ كيرلس الرابع- الشماس كامل صالح نخلة).
لم يتوان القنصل Finn (القنصل الانجليزي بالقدس)، فى إثارة مشكلة دير السلطان من جديد ومحاولاته المستميتة لنزع دير السلطان من الأقباط وإعطائه للأحباش، فقد أرسل خطاباً بتاريخ 26 يونيو سنة 1858م إلى وزير الخارجية البريطانى يقول فيه: ".... أن حالة الأحباش بالقدس فى حالة كئيبة. وانتهرت فرصة عودة الوفد الحبشى إلى الحبشة لإرسال كتاب إلى الملك أبلغته فيه بحمايتنا لهم هنا، بناء على تعليمات سعادتكم فى سنة 1852م، ويسرنى إذا أمكن اتخاذ تدابير فعالة لتثبيت حقهم فى دير السلطان...". لكن سرعان ما أتخذت القنصلية الإنجليزية حذرها بخصوص فرض الحماية الانجليزية على الأحباش، خشية أن يُساء فهمها، لأن الرئاسات الكنسية الشرقية لابد ستعتبر هذا النوع من الحماية كخطوة غير مباشرة من قِبل الأنجليكان نحو الحصول على جزء من كنيسة القبر المقدس التى يقع دير السلطان فوق مغارة الصليب بها، والتى لا سبيل للحصول على جزء منها بغير هذه الطريقة. لذا كتب وزير الخارجية البريطانى إلى القنصل الانجليزى بالقدس خطاباً محذراً إياه من إتخاذ أية خطوة قد تؤخذ على أنها ترمى إلى الحصول على جزء من كنيسة القيامة للطائفة الإنجليكانية، وينبغى العمل بطريقة هادئة لعدم إثارة الطوائف الشرقية ضدهم.