فى سنة 1902م سافر الأنبا متاؤس مطران الحبشة وبصحبته الأنبا يوأنس مطران المنوفية والبحيرة، والأنبا مرقس مطران إسنا والأقصر، إلى القدس لمحاولة تسوية مسألة دير السلطان بطريقة تُبقى على العلاقات الروحية بين الأقباط والأحباش. وهناك قابلهم القنصل الايطالى بالقدس Karlintie ، وسلّمهم رسالة من إمبراطور الحبشة منيليك، طالب فيها بتسليم مفاتيح الدير إلى الأحباش، وبعدما قام المطارنة الثلاث ببحث الموضوع وفحص المستندات، رفعوا تقريراً إلى البابا الأنبا كيرلس الخامس بتاريخ 5 بشنس سنة 1618ش (13 مايو سنة 1902م)، جاء فيه أن Karlintie اقتنع بقوة مستندات الأقباط وأخذ ملخصاً منها ووعد بإرساله إلى روما لترجمتها إلى اللغة الحبشية وإرسالها إلى الإمبراطور منيليك بمعرفة وزارة الخارجية الايطالية، (مجموعة الوثائق- وثيقة رقم 25- الأنبا تيموثاوس). ولكن الإمبراطور لم يقتنع بذلك وأصر على أن الدير منحه من الملكة هيلانة، ومن ثم قطع العلاقات مع البطريركية القبطية بالقاهرة.
وفى سنة 1905م، أرسل الإمبراطور بعثة إلى القدس ، إتصلت برؤساء الطوائف المسيحية فيها ، لأخذ شهادات منهم بملكية دير السلطان للأحباش ، تمهيداً لتقديمها إلى الباب العالى والحصول منه على وثيقة بذلك. وقد أهمل الأقباط شأن هذه البعثة إعتقاداً منهم بأن رؤساء الطوائف سوى لا يشهدون إلا بالحق ولا يخرجون عما فعله أسلافهم بتوقيعهم على وثائق رسمية عديدة تقر بملكية الدير للأقباط، ولكن يبدو أن الأقباط كانوا مُبالغين فى التفاؤل، كما سنبين من الآتى:
- دميانوس بطريرك الروم الأرثوذكس: شهد بأن الأحباش مقيمون بدير السلطان منذ زمن بعيد، دون أن يشهد للحق بأن ملكية الدير هو للأقباط.
- بطريرك الأرمن الأرثوذكس: شهد بأن الأحباش مقيمون فى الدير المسمى دير السلطان منذ زمن وأن مفاتيحه فى يد الأقباط، دون أن يذكر صراحة شيئاً عن ملكية الدير، إلا أن فى قوله أن مفاتيحه فى يد الأقباط، شهادة ضمنية بملكيته للأقباط.
- النائب البطريركى للاتين: اكتفى بنقل شهادة وجهاء طائفته الذين يقولون أن الدير هو موضع خلاف بين الأقباط والأحباش من قديم، وأنه يُستنتج من إقامتهم الصلاة فى كنيسته أنه فى تصرفهم. للأسف تناسى النائب البطريركى أن مفاتيح الكنيسة كانت فى يد الأقباط.
- مطران الموارنة بالقدس: قدم شهادة محررة باللغة الفرنسية، تفيد أنه رأى وسمع أن الدير ملك الأحباش وإنهم مقيمون به.
- مطران السريان: قال فى شهادته المحررة باللغة التركية والموجهة إلى رئيس البعثة الحبشية، إنه لا يعلم سوى أن الأحباش يقيمون فى دير السلطان من قديم الزمن وأنهم يقيمون شعائرهم الدينية فيه.
وهكذا، جاءت الرياح بعكس ما تشتهى السفن، فجاءت شهادة رؤساء الطوائف بعيدة كل البعد عن الحق الذى فى المسيح. وكان ذلك مصدر جزن للأقباط فى القدس ومطرانهم نيافة الأنبا تيموثاوس. وسافر بعد ذلك الجنرال الحبشى مششا على رأس الوفد الحبشى إلى الأستانة حاملاً فى حقيبته الشهادات سالفة الذكر، وهناك تمكن بمساعدة الروس من استصدار إرادة سنية بتاريخ 20 يناير سنة 1906م مؤداها إنه: "ولو أن الحكومة تعترف بإلتزامها بالمحافظة على مبدأ الوضع الراهن Status Quo بالأماكن المقدسة، إلا أنه من إيجاب الحال عدم رد الوفد الحبشى الذى إلتجأ إلى السدة السنية الملوكانية وإرجاعه مطيب الخاطر، وإنه نظراً لأن الأقباط يعترفون بوجود الأحباش بالدير بصورة مسافرين عندهم (ضيوف)، فلذلك إستتب مجلس الوكلاء إعطاء مفتاح آخر للأحباش وعليه يلزمكم وضع الإجراء طبقاً للإرادة السنية المتعلقة بذلك".
ولما أَبلغ رشيد باشا متصرف القدس هذه الإرادة السنية إلى الأنبا تيموثاوس مطران الكرسى الأورشليمى، طلب الأخير إمهاله إلى أن تظهر نتيجة إتصالات الرئاسة الدينية بمصر مع الباب العالى، فرد عليه رشيد باشا فى مذكرة أواخر يناير سنة 1906م. جاء فيها: "أنه نظراً لأن إقامة الأحباش فى دير السلطان هى على سبيل الضيافة، فإن إعطاء مفتاح لهم لا يخل بحقوق الأقباط المعروفة لدى الدولة من وجهة التغييرات وجميع الخصوصيات الأخرى الداخلة فى الستاتوكو، ولا يُحتمل تأويله بإعطاء حق جديد للأحباش لأن الأمر لا يعدو كونه مجاملة من المضيف لضيفه..".
ولما أصرّ الأقباط على عدم إعطاء مفتاح ثان للأحباش، إقترح متصرف القدس – حلاً للإشكال- فتح باب خاص لهم فى الجهة الشرقية. وصدرت إرادة سنية ثانية تقول: ".... إنه لما كان غرض الحكومة من إعطاء مفتاح للأحباش هو لتسهيل مرورهم وعبورهم من دير السلطان لتقليل المشاكل بينهم وبين الأقباط، وأن الأحباش ليس لهم فى الدير سوى حق المسافرة (الضيافة) فقط، فإذا رعى فتح باب فى الجهة الشرقية فلا مانع إذا كان بنوع لا يطرأ منه خلل على الستاتوكو بالدير المذكور".
ونظراً للتسامح المتناهي للأقباط، نُفَّذ الإقتراح المشار إليه، مما زاد تشجع الأحباش بتساهل الحكومة العثمانية على مواصلة السعي للحصول على مكاسب أخرى. فطلبوا من الباب العالى إعطاءهم كنيسة الملاك بالدير وإستلام مفاتيحها، وبالتالي مفاتيح الدير، وإضطر السلطان تحت الضغط الروسي إلى إصدار أمره بإعادة النظر فى الموضوع، لما فى ذلك من تأييد ميل الأحباش نحو الحكومة السنية، وأبلغته وزارة الخارجية التركية إلى مجلس القدس بمذكرة خاصة، فقام المجلس ببحث الموضوع بحثاً دقيقاً وأصدر قراراً بعدم إمكان قبول مطالب جديدة من قبل الأحباش، للأسباب الواردة فى المضبطة المؤرخة فى 22 ذى القعدة سنة 1325هـ الموافق 27 ديسمبر سنة 1907م، وهى تتلخص فيما يلى:
1- أن المستندات التى قدمها الأحباش ليست سوى التسوية التى عُملت فى سنة 1272هـ، والتى على أساسها بُنى فرمات الستاتوكو، وبمقتضى هذه التسوية تبقى الطوائف فى الأمكنة التى فى حوزتها قبل حدوث النزاع (أى قبل سنة 1820م التى بدأ فيها الأحباش ينازعون الأقباط فى دير السلطان)، ولكن رهبان الأحباش أوّلوا ذلك بمعنى أنه يعطيهم حق البقاء فى الأمكنة التى كانوا شاغلين لها أثناء التسوية.
2- مع أن الأحباش سبق أن خطفوا مفتاح دير السلطان فى وقت من الأوقات، إلا أنه بناء على إعتراض الأقباط، أجريت تحقيقات دقيقة سنة 1282هـ ثبت فيها ملكية الأقباط فى الدير، وسُلّم إليهم مفتاح القفل الذى عمل جديداً.
3- أنه عندما أراد الأقباط توسيع باب الدير منذ 17 سنة، عامل الأحباش مطران الأقباط معاملة مهينة فمنعهم الأقباط من الصلاة التى كانوا يجرونها فى الكنيسة العليا (الأربعة الأحياء غير المتجسدة) بدير السلطان، وبقيت هذه الكنيسة مغلقة فى وجه الأحباش منذ 17 سنة (أى منذ سنة 1891م)، أما بالنسبة لكنيسة الملاك، فلم يحدث أن أجرى الأحباش فيها صلاة، ومفاتيح الكنيستين كانت دائماً بيد الأقباط.
4- أن الإعلام الشرعي المؤرخ فى 5 ربيع أول سنة 1280هـ أثبت حقوق الأقباط ومستنداتهم سبق تدقيقها فى مجلس إدارة المتصرفية.
5- ليس فى المذكرة المحررة من قلم الديوان الهمايونى ما يدل على سبق وجود دير أو كنيسة يخصان الأحباش فى القدس كما تدعى المذكرة المقدمة من الوفد الحبشى، بل على العكس أن العُهد والفرمانات مُصرح بها أن الأحباش والكرج (هم الرهبان من جورجيا فى روسيا) والصرب هم تحت إدارة بطريركية الروم.
6- إن الفرمانات الصادرة فى سنتى 1268هـ ، 1269هـ بوجوب المحافظة على الوضع الراهن (الستاتوكو) لا يوجد بها إشارة تتعلق بالأحباش.
7- أنه بإجراء التحقيقات ثانية لم يوجد أى تسجيل بالمحكمة الشرعية بخصوص إعطاء وثيقة من قبل عمر الفاروق والسلطان سليم الأول بإثبات حق التصرف للأحباش فى دير السلطان.
8- إن الثابت من القيودات والوثائق الرسمية أنه لم يكن للأحباش ديراً مستقلاً بالقدس وكنيسة ومحلاً للزيارة.
9- إن دير السلطان من تاريخ فرمان الستاتوكو هو تحت إدارة الأقباط.
10- إن إبقاء محلات الزيارة بالقدس على حالها القديم أمر نصت عليه المادة 62 من معاهدة برلين المعطوفة على معاهدة باريس.
11- إن الأحباش لم يمكنهم إثبات حقوق تصرفهم فى القدس (إثبات أملاكهم) قبل تاريخ معاهدة باريس والخط الهمايونى الصادر سنة 1272هـ، ولذا فلا يمكن إعطاءهم حقوق خاصة بطوائف أخرى.
12- إن كسب ميل الأحباش نحو الحكومة طبقاً للإرادة السنية حاصل بالمساعدة التى قدمت لهم قبل سنتين فى أوائل سنة 1906م بفتح باب فى دير السلطان وإعطاء مفتاحه لرئيسهم الروحانى، وهو قد أمتنّوا لهذه التعطفات الخاصة وأبدوا شكرهم، أما قبول طلبهم الأخير فيخالف أحكام الستاتوكو ويؤدى إلى نزاع قضائى، ولا يمكن إجراء أية مساعدة خلاف المساعدات التى عُملت لهم، لأن المعاهدات تمنع ذلك.
وتقرر تبليغ ذلك إلى الوفد الحبشي بواسطة نظارة الخارجية-المحبة المسيحية الحقيقية التى تعامل بها البابا كيرلس الخامس مع الأحباش إزاء هذا القرار الحاسم الذى يرفض قبول أية طلبات جديدة من الأحباش بعدما فُتح لهم باب فى الجهة الشرقية من الدير، سعوا إلى مطالبة الحكومة بتسليم مفتاح الباب الذى يصل بين الدير وساحة كنيسة القيامة (باب كنيسة الملاك) إلى بطريرك الروم الذى كان يحابيهم على حساب الحق، ليتوصلوا بذلك إلى الإستيلاء على الدير. لهذا رأى البابا الأنبا كيرلس الخامس والمجلس الملى العام، إرسال وفد إلى القدس مؤلف من السادة مرقس حنا وإلياس عوض وسيداروس بشارة، وكانت مهمة الوفد "النظر فى الأوقاف القبطية بالقدس وخصوصاً فى مسألة إستبقاء المفتاح المذكور بيد الأقباط والممانعة فى تسليمه لبطريرك الروم حسب طلب الأحباش، ومحاولة إرضاء الأحباش بقدر ما تسمح المحبة المسيحية الحقيقية". وصل أعضاء الوفد إلى القدس فى 6 أبريل سنة 1908م بصحبة مطران الكرسى الأورشليمى، وفى اليوم التالى زاروا متصرف القدس، وإنتظروا أياماً دون فتح باب المفاوضات إلى أن وصل إلى القدس الجنرال مششا الحبشى. وفيما يلى ملخص ما جاء بتقرير الوفد خاصاً بدير السلطان:
1- أن الأحباش كانوا يستعملون الدير بإعتبارهم أبناء الكنيسة القبطية، ويصلون فى كنيسة الأربعة الأحياء غير المتجسدة، ولما أساءوا إلى الأنبا باسيليوس منعهم من الصلاة فيها، كما طردهم من الدير. ثم عادوا إليه بعدما إستسمحوه فصفح عنهم وسمح لهم بالبقاء فيه بغير أن يصلوا فى الكنيسة سالفة الذكر، فجعلوا من غرفتين فى غرب الدير كنيسة لهم.
2- نازع الأحباش مراراً فى ملكية هذا الدير، وحجتهم الكبرى إنهم يسكنونه من قبل معاهدة برلين (التى أقرت الوضع الراهن)، لذا يروا أنه يجب أن يبقوا فيه. ولما استمروا فى تعدياتهم على الأقباط، مُنع هؤلاء أيضاً عن الصلاة فى كنيسة الملاك التى كانوا يصلون فيها من قبل.
3- إستولى الرهبان الأحباش على كل غرف الدير، عدا غرفة واحدة أبقوها لراهب قبطى، والآن يسمحون للأقباط بحق المرور عبر الدير للوصول إلى كنيسة القيامة، أما مفاتيح الأبواب الموصلة إليها فمع الأقباط.
4- يسعى الجنرال مششا سعياً متواصلاً للحصول على دير السلطان برمته.
5- مازال الأحباش يستعينون علينا بواسطة بعض البطاركة بالقدس والقناصل لسلب الدير الذى أويناهم فيه.
6- طلب الوفد من المتصرف ومعه مدير الشئون الأجنبية، الوصول إلى طريقة توفق بين الأقباط والأحباش نهائياً.
7- رأى الوفد أن يعرض حلاً سامياً، وهو أن يأخذ الأحباش 240 متراً فى الزاوية البحرية الغربية، ولهم أن يبنوا فيه كنيسة، ويتركوا ما عدا ذلك، فرفض الأحباش هذا الحل بحجة أنهم يريدون البركة والمحلات المقدسة لا الملك.
8- عرض الوفد حلاً آخر، وهو أن يتركوا الدير بالمرة، ويأخذوا منزلاً من منازل الوقف للإقامة فيه، ونسمح لهم بالصلاة فى كنيسة الأربعة الأحياء غير المتجسدة، ما دام غرضهم البركة، فرفضوا أيضاً.
9- رأى الوفد قبل العودة أن يعرض حلاً ثالثاً، هو أن يأخذ الأحباش 240 متراً مع حق الصلاة فى كنيسة الأربعة الأحياء غير المتجسدة، تحت سلطة وأمر المطران، فرفضوا أيضاً.
10- رفض الأحباش بكل إصرار كل تسوية وحلول بهذا الشأن، وعرضوا أن يأخذوا قسم الدير الواقع قبلى وبحرى الدير وأن يوصلوه بكنيسة الأربعة الأحياء غير المتجسدة، ويتركوا الباقى، ولكن لما كان معنى هذا فى الواقع أن يملكوا الدير كله، فقد رُفض.
11- عرض الوفد أن يأخذ الأحباش 240 متراً بجوار كنيسة الأربعة الأحياء غير المتجسدة، وأن يُفتح لهم باب خاص على الممر الموجود أمام هذه الكنيسة، على أن يبقى مفتاحه بيد المطران القبطى، وقد أرضى هذا الحل الجميع- متصرف القدس والقناصل وبطاركة الطوائف- وأظهروا أمتنانهم، وشكروا الكنيسة القبطية على تسامحها ومحبتها الحقيقية، إلا أن الجنرال مششا لم يبدى رأيه، وقال أنه لا بد من أخذ رأى مولاه الملك، وغادر القدس إلى الحبشة دون أن يبت فى الأمر.
- وهكذا عاد الوفد القبطى إلى مصر دون الوصول إلى حل مع الأحباش-وبعد مرور عامين على هذه المفاوضات، أى سنة 1328هـ (1910م)، قام الأقباط بترميم بعض قلالى الأحباش فى دير السلطان، بموجب رخصة من بلدية القدس برقم 137 وبتاريخ 18 سبتمبر 1910م (سنة 1328هـ). وفى سنة 1914م نشبت الحرب العالمية الأولى ونفى الأتراك مطران الأقباط وبطاركة الروم والأرمن والنائب البطريركى للاتين من القدس. وبعد إنتهاء الحرب- وفى أثناء إحتلال الجيش الإنجليزى للأرض المقدسة- قام وكيل مطران الأقباط فى ديسمبر سنة 1919م بترميم وتصليح بعض حوائط وغرف علوية مع الدرج وسقوف الغرف، الكائنة بداخل دير السلطان، بموجب رخصة من بلدية القدس بتاريخ 13 ديسمبر 1919م، ويلاحظ أن هذه الرخصة أقرت صراحة بملكية الأقباط للدير بقولها: دير الأقباط المعروف بدير السلطان. وفى سنة 1920م، أرسلت الإمبراطورة زاوديتو وفداً إلى مصر يحمل خطابا لقداسة الباب كيرلس الخامس تقول فيه "... نحن أمام السدة المرقسية نرجونه و قولنا هذا خوفاً من دخولنا أمام القضاء، ولكن إذا دخلنا أمام المحاكم، وثبت لنا أو لكم ، فهذا يحدث إفتراقاً بيننا وبينكم، ويضحك علينا الأعداء..." ورد عليها قداسة البابا بكتاب مؤرخ فى 21 أكتوبر 1921م نصه كالآتى: "....أننى سبق حررت لجلالة الملك منيليك رحمه الله، بأنه ولو أن دير السلطان ملك صريح للأقباط، إلا أنه يصح أن يفتح الباب للأقباط والأحباش على السواء، لأنهم أخوان شقيقان لأم واحدة هى الكنيسة الأرثوذكسية، غير أنه يظهر من خطاب جلالتك أن الأحباش يقولون بملكيتهم لهذا الدير من أيام الملكة هيلانة، ولما كانت مسألة ملكية الدير قد بُت فيها من زمن بمعرفة السلطات العليا المختصة بعد فحص المستندات التى قدمها الأقباط والأحباش، وتبين من الفحص أن مستندات الأقباط قاطعة بإثبات حقوق ملكيتهم للدير، وحيث أنه مع ملكية الدير للأقباط، ومع وجود مفاتيح أبواب الدير بيدهم، فأنا لا أمانع فى أن الأقباط يفتحون للشعب القبطي والشعب الحبشي باب هذا الدير لأنهم أبناء كنيسة واحدة". (مقتبس من: أملاك القبط فى القدس- صفحة 160- جرجس فيلوثاؤس عوض). - ولكن هذا الحل لم يرض الأحباش أيضاً-
منازعات النصف الثانى من القرن العشرين فى فبراير سنة 1959م، إنتهز المطران الحبشي فيلبس، فرصة خلو الكرسي البابوي بنياحة البابا الأنبا يوساب الثانى، وخلو الكرسي الأورشليمي بوفاة الأنبا ياكوبوس، وتقدم إلى متصرف القدس يطلب إسترجاع حقوق الأحباش رسمياً فى دير السلطان. وفى صيف عام 1959 عندما بدأت إجراءات إنتخاب البابا كيرلس السادس، ودعتهم البطريركية بالقاهرة إلى الإشتراك فى الإنتخاب وحضور الرسامة رفض الأثيوبيون، وأصروا على ضرورة تسوية منازعات دير السلطان، وجعلوا ذلك شرطاً للإعتراف بالبابا الجديد. فذهب وفد قبطى إلى أديس أبابا للتفاهم مع حكومتها وكنيستها، وتم الإتفاق على حضور وفد أثيوبى إلى القاهرة للتفاوض مع وفد قبطى يعينه البابا الجديد. بدأت المحادثات فى يونيو سنة 1959م وعرض أحد أعضاء الوفد بصورة غير رسمية تسوية مسألة دير السلطان بإعتبارها أحد المواضيع التى يجب حلها لتصفية الخلاف نهائياً، ولكن الوفد الأثيوبى إعترض على ذلك قائلاً، أن الوقت الباقى حتى مجئ جلالة الإمبراطور فى زيارته الرسمية للجمهورية العربية المتحدة لا يتسع إلا لنظر الأمور الخاصة بتنظيم العلاقة بين الكنيستين وتوقيع إتفاق بشأنها قبل حضوره، وللأسف كان السبب الحقيقى وراء ذلك، أن المطران الأثيوبى فى القدس أبلغهم أنه على وشك الوصول إلى حل للدير مع السلطات الأردنية (القدس وقتئذ كانت تتبع الأردن) لا يمكن التوصل إليه ودياً مع الكنيسة القبطية مهما بلغ بهم التساهل. وكان الأقباط حتى ذلك الوقت لا يعلمون شيئاً عن الطلب الذى تقدم به المطران الحبشى بالقدس فى فبراير سنة 1959م. إلى الحكومة الأردنية بشأن دير السلطان. ولما سافر إلى القدس نيافة الأنبا باسيليوس – الذى كان قد رُسم حديثاً مطراناً للكرسى الأورشليمى- وعُين عقب رسامته عضواً بالوفد القبطى فى المفاوضات مع الأحباش، أرسل نيافته خطاباً إلى قداسة البابا كيرلس السادس بتاريخ 12 أغسطس 1959م يقول فيه:"... علمت أن الأحباش قدموا التماساً إلى السلطات الأردنية ( أثناء فترة إنقطاع العلاقات بين الأردن ومصر) يطالبون فيه بملكية دير السلطان...". وفى 26 أغسطس 1959م، تلقى نيافة الأنبا باسيليوس كتاباً من محافظ القدس، يطلب فيه تزويده بملخص لمستندات الأقباط الخاصة بدير السلطان لعرضه على اللجنة المشكلة للفصل فى هذا الموضوع، فرد عليه نيافته بكتاب مؤرخ فى 27 أغسطس سنة 1959م قال فيه:"... إن ملكية دير السلطان الذى للأقباط سبق الفصل فيه نهائياً بأحكام صادرة من المحاكم الشرعية ومجلس متصرفية القدس وأقرتها الصدارة العظمى، وأن معاهدة برلين تقضى بضرورة المحافظة على الوضع الراهن فى الأماكن المقدسة "الستاتوكو"، وخَلُص من ذلك إلى إنه ليس ثمة مبرر قانوني لطلب إعادة النظر فى ملكية الدير بعد الأحكام النهائية التى صدرت لصالح الأقباط..ولما كان بابا الأسكندرية هو الرئيس الروحى الأعلى لجميع أقطار الكرازة المرقسية- ومنها أثيوبيا- فسأبادر برفع الأمر إلى قداسته عندما يتكرم عطوفة المحافظ بموافاته ببيان عن الأسس التى يستند إليها تشكيل اللجنة التى ستنظر فى مسألة دير السلطان، وهل إختصاصها قاصر على هذه المسألة بالذات أم أن لها إختصاصاً عاماً يشمل جميع المنازعات المتعلقة بالأستاتوكو بين مختلف الطوائف، وهل تعتبر قراراتها نهائية أم أنها قابلة للإستئناف وفى الحالة الأخيرة ما هى جهة الإستئناف...". وواضح أن نيافة الأنبا باسيليوس قصد من وراء هذه الأسئلة إلى معرفة ما إذا كانت اللجنة سالفة الذكر هى التى أشارت إليها المادة 14 من صك الإنتداب على فلسطين، فيمكن عندئذ التأكد مما إذا كانت تتوفر فيها الشروط الواردة فى تلك المادة. غير أن المحافظ لم يرسل جواباً على إستفسارات نيافته، بل إكتفى بإبلاغه تليفونياً أن اللجنة التى ستتولى النظر فى مسألة دير السلطان قد شكلت لهذا الغرض فقط. فأرسل إليه نيافته خطاباً بتاريخ 23 أكتوبر سنة 1959م، طلب منه فيه الإفادة عما إذا كانت هناك مبررات تقتضى إخضاع الأقباط بالذات لإجراء خاص لا يخضع له غيرهم من الطوائف الأخرى، وما هى الأسانيد القانونية التى بُنى عليها إتخاذ هذا الإجراء، وهل هناك سوابق مماثلة تجاوزت فيها الحكومة الأردنية حدود الإلتزام بالمحافظة على الوضع الراهن لأية طائفة ، أو تعرضت فيها للأسس التى قام عليها ذلك الوضع. ولكن سيادة المحافظ فى هذه المرة لاذ بالصمت نهائياً، وألغيت اللجنة المشكّلة. وفى 10 سبتمبر سنة 1960م، أثير هذا الموضوع من جديد واستدعى المحافظ إلى مكتبه نيافة الأنبا باسيليوس، وكان قد سبقه إلى هناك المطران الحبشى واثنان من رهبانه، وقد بادره المحافظ بالسؤال عما إذا كان هناك أمل فى إنهاء الخلاف القائم بين الأحباش والأقباط بشأن دير السلطان، فأجاب الأنبا باسيليوس: أن الأمل معقود بقداسة البابا كيرلس السادس- بوصفه الرئيس الأعلى للكنيستين القبطية والحبشية- بتشكيل لجنة مكونة من ممثلين عن الكنيستين لبحث هذا الموضوع، لأن الرياسة الدينية هى صاحبة الكلمة النهائية وليس للمطران أن ينفرد برأيه. فاعترض على ذلك المطران الحبشي بقوله: أن بطريرك الأقباط هو خصمنا فى هذه القضية، وهو رئيس الكنيسة التى أغتصبت مِنَّا الدير (لاحظ عدم اللياقة فى الحديث)، فكيف يمكن أن نُسلّم له بأن يحكم فيه، وهو فضلاً عن ذلك لا يملك صلاحية النظر فى هذا الخلاف، وأنه يقع على عاتق الحكومة الأردنية وجوب الفصل فيه فى أقرب فرصة ممكنة. وانتهى الاجتماع بأن طلب المحافظ من الأنبا باسيليوس أن يبعث إليه بنسختين من المذكرة الخاصة بملكية الأقباط للدير، وأن يقوم المطران الحبشي فيلبس، بتزويده بصورة مما لديه من مستندات فى بحر أسبوع، على أن يتكفل المحافظ بإرسال صورة من مستندات كل طرف إلى الطرف الآخر ليبدى ملاحظاته عليها فى بحر الأسبوعين التاليين، وبعد ذلك يعكف المحافظ شخصياً على دراسة مستندات ومذكرات الطرفين، ثم يُقدم توصياته إلى الحكومة بما يراه. وقد بادر نيافة الأنبا باسيليوس بإرسال نسختين من المذكرة مع المستندات إلى المحافظ، وأبلغ ملخص ما دار فى الاجتماع إلى قداسة البابا كيرلس السادس وفى 18 سبتمبر سنة 1960م أرسل قداسة البابا إلى رئيس مجلس وزراء الحكومة الأردنية البرقية التالية: "...الوضع الراهن بدير السلطان كغيره من الأماكن المقدسة كفلته معاهدة برلين الدولية والتزمت الحكومات المتعاقبة فى فلسطين، ومنها حكومتكم بالمحافظة عليه كما هو، ولذا فالموضوع لا يمكن أن يكون محل نظر أية سلطة محلية وأى قرار فيه يكون باطلاً، نرجو إصدار تعليماتكم لعطوفة محافظ القدس بإحترام الحقوق التاريخية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، منعاً لشبهة تدخّل التأثيرات السياسية فى المسائل الدينية...". كذلك بعث قداسته بتعليمات إلى الأنبا باسيليوس بالإمتناع عن حضور أية إجتماعات يعقدها المحافظ بخصوص دير السلطان، حتى لا يؤخذ ذلك بأنه تسليم منه بصلاحية السلطات الأردنية للنظر فى هذا الموضوع وفى 2 نوفمبر سنة 1960م، أرسل محافظ القدس كتاباً إلى الأنبا باسيليوس يلومه فيه على تأخره فى موافاته بملاحظاته على ما قدّمه الأحباش من أوراق، ويتهمه بعدم الرغبة فى التعاون معه، ويقول أنه وحده (المحافظ) الموكل بشئون الأماكن المقدسة وكل إتصال يجرى مع غيره لا يلتفت إليه، وأنه لا دخل للإعتبارات السياسية فى عمله. واضح أن المحافظ يُلّمح بهذه العبارة الأخيرة إلى برقية قداسة البابا لرئيس الوزراء الأردنى. ورد نيافة الأنبا باسيليوس على هذا الخطاب بتاريخ 8 نوفمبر 1960م، قائلاً:"...أنه لا موجب لإرسال أية وثائق أو مستندات خاصة بدير السلطان طالما أنه لا يستطيع قبول إختصاص أية لجنة محلية للنظر فى هذه المسألة، وأن التمسك بالحقوق لا يصح أن يُفسّر بأنه عدم رغبة فى التعاون...". وبتاريخ 11 نوفمبر سنة 1960م، أرسل قداسة البابا كيرلس السادس إلى جلالة إمبراطور أثيوبيا برقية قال فيها: "...إن الأنبا فيلبس مطران الأحباش بالقدس، مازال يستحث السلطات فى القدس لإصدار قرار عاجل فى مسألة دير السلطان، ولذا فقد أعطيت التعليمات إلى مطراننا بالقدس برفض ما تدعيه السلطات المحلية من حق التدخل فى هذا الموضوع...". وفى 13 نوفمبر سنة 1960م، أرسل نيافة الأنبا باسيليوس خطاباً إلى محافظ القدس مؤكداً أن المرجع الأعلى فى موضوع دير السلطان كان دائماً الرياسة الدينية فى القاهرة، وعلى هذا الأساس لا يسعه أن يقوم بأى دور فيه بغير تعليمات من قداسة بابا الأسكندرية الذى أبلغ جلاله إمبراطور أثيوبيا أثناء زيارته لها التى انتهت منذ أسبوع، بأنه سيعمل على حل هذه المشكلة بما يكفل دوام المحبة بين أبنائه الأقباط والأثيوبيين، الأمر الذى لا شك تُرحب به الحكومة الأردنية ويتفق مع الغاية التي تنشدها. وبتاريخ 14 نوفمبر سنة 1960م، تلقى قداسة البابا كيرلس السادس برقية من جلالة إمبراطور أثيوبيا، جاء فيها:"....تلقينا برقية قداستكم بخصوص دير السلطان، ونعتقد أنه ما لم نتلق حلاً سريعاً ومرضياً بواسطتكم فإن كل إرجاء للإجراءات القانونية سوف لا ينجم عنه سوى سوء التفاهم كما حدث فى الماضى...". وفى 16 نوفمبر 1960م، أرسل قداسة البابا برقية مرة ثانية إلى جلالة الإمبراطور، ورد فيها:"....نريد أن نؤكد لجلالتكم أننا نبحث جادين لإيجاد حل عملى فى القريب العاجل بالروح المسيحية التى سادت محادثاتنا فى أديس أبابا، وأن اللجوء إلى جهات مدنية فى مسائل تتعلق بملك للكنيسة ضد أخوة فى العقيدة أمر لا يليق بالأسقف ولا يؤدى إلا إلى سوء التفاهم، نهيب بكل من يعنيه الأمر أن يتجنب أى موقف يؤدى إلى توتر الوضع ويشوه الجو الهادئ اللازم لتحكيمنا الأبوى، نسأل السيد المسيح أن يلهمنا جميعاً ما فيه مجد الكنيسة وسلام أبنائها...". وفى 19 نوفمبر سنة 1960م، وجه قداسة البابا كيرلس السادس، دعوة إلى المطارنة الذين سبق لهم الخدمة فى القدس وإلى عدد يربو على الخمسين من الأراخنة لإجتماع يُعقد فى المقر البابوى يوم أول ديسمبر سنة 1960م، للنظر فى مشكلة دير السلطان، وتقرر فى هذا الإجتماع الإتصال بنيافة الأنبا باسيليوس للإفادة تفصيلاً بما إنتهى إليه الأمر فى هذه المسألة وتشكيل لجنة مكونة من : المهندس يوسف سعد وكيل المجلس الملى العام، والسفيرين السابقين عدلى أندراوس وديمترى رزق والمستشار حلمى بطرس والمحامى إستفان باسيلى والمهندس فوزى إسحق، وتم توزيع التقرير الذى وُضع عن مشكلة دير السلطان. وفى أواخر سنة 1960م أثناء زيارة الإمبراطور للبرازيل حدث إنقلاب فاشل فى أثيوبيا، فكان من الطبيعى فى هذه الظروف أن يُرجأ البحث فى مسألة دير السلطان إلى أن يستتب السلام فى أثيوبيا، وتسمح الأوضاع بإيفاد مندوبين للتفاهم فى هذا الشأن مع الأقباط.
22 فبراير سنة 1961م، يوم حزين
دعا محافظ القدس، نيافة الأنبا باسيليوس فى يوم 22 فبراير سنة 1961م، للحضور إلى مكتبه فى الساعة الواحدة بعد الظهر، وفاجأه بإعطائه تبليغ منه، بصدور قرار إداري من مجلس الوزراء الأردنى بتاريخ 12 فبراير سنة 1961م، وفقاً لأحكام المادة الثالثة من مرسوم الأماكن المقدسة – فلسطين- الصادر بتاريخ 25 يوليو 1924م – والمادة الثانية من القانون رقم 28 لسنة 1950م- والإرادة الملكية السامية الصادرة بتاريخ 19 يوليو 1950م- ويقضى هذا القرار بتسليم دير السلطان إلى الأحباش، مع مفتاح بابه القبلى ومفتاح كنيسة الملاك ميخائيل الموصل إلى ساحة كنيسة القيامة، ومنع مرور الأقباط عبر ساحة الدير إلى كنيسة القيامة، إلا فى عيدى الصليب والفصح (يوم سبت النور)، على أن تُشرف الحكومة على هذه العملية فى وقت وزمن معين، ولا يجوز للأقباط الدخول أو المكوث فى غير هذه الأحوال، وإخراج الراهب القبطى من الدير، وإعلان ملكية الطائفة الحبشية للدير بحدوده المعروفة مع الكنائس الداخلية فيه أى كنيسة الملاك ميخائيل وكنيسة الأربعة الأحياء، وفى حالة عدم إنصياع الأقباط لهذا الأمر، يُجرى تبديل الأقفال وتسليم مفاتيحها إلى الأحباش". وإزاء هذا القرار الذى قلب الأوضاع رأساً على عقب، طلب الأنبا باسيليوس من المحافظ، مهلة للإتصال بالمراجع العليا، فرفض المحافظ وقال: إذا لم يُسلّم الدير فى الحال فإنه سيستولى عليه بالقوة"، وقد كان حاضراً مع المحافظ قائد المنطقة وقائد اللواء وقائد المقاطعة وضابط المباحث (وقد كان لذلك مغزى، يمكن أن يفهمه الأنبا باسيليوس). أكد نيافة الأنبا باسيليوس للمحافظ ولكل الحاضرين: " لن أُسلّم الدير". عندئذ طلب المحافظ من قائد المنطقة والضباط الآخرين، بأن يقوموا فوراً بكسر أبواب الدير والكنائس الموجودة به، والإستيلاء عليه، وتغيير الأقفال ووضع غيرها وتسليم مفاتيحها للأحباش. فخضعوا للأمر، ووضعوا قوة من الجنود فى الدير. بإرشاد من الله، قرر الأنبا باسيليوس الذهاب إلى عمان لمقابلة جلالة الملك حسين، فأرسل برقية إلى رئيس التشريفات، طالباً تحديد موعد للتشرف بمقابلة جلالة الملك فى أقرب وقت ممكن. وخشية العبث من الأحباش بالتراث القبطى فى كنيستى الدير والأشياء الموجودة بغرفة الراهب القبطى بعدما طُرد منها بالقوة، أرسل نيافته فى اليوم التالى إنذاراً رسمياً بواسطة كاتب العدل إلى محافظ القدس ضمنه جميع الآثار الموجودة بالكنيستين من أيقونات وأحجبة الهياكل وكتابات قبطية ونقوش وصلبان وأوانى للمذبح، وحمّله فيه كافة المسئوليات فى حالة حدوث أى تغيير أو تبديل أو تلف أو نقص أو فقدان أى شئ من هذه المقدسات نتيجة لإستيلائه على الدير، وأرسل نسخة من هذا الإنذار إلى كل من رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية. كما قام نيافة الأنبا باسيليوس بإبلاغ قداسة البابا بكافة التفاصيل التى حدثت وما ينوى نيافته من إتخاذ اللازم. فى 3 مارس سنة 1961م، أبلغت التشريفات الملكية، نيافة الأنبا باسيليوس، بأنه قد تحدد يوم السبت 4 مارس لمقابلة جلالة الملك، وفى هذه المقابلة أوضح لجلالته أن دير السلطان ملك للأقباط ومفاتيحه بأيديهم منذ مئات السنين وأنه ليس للأحباش فيه سوى حق الضيافة وألتمس منه رفع مظلمة وإعادة الوضع الراهن فى الدير إلى ما كان عليه من قبل قرار الإستيلاء، وقدّم مظلمة لجلالته، فوعد بدراسة الموضوع وإعطاء كل ذى حق حقه. وفى 8 مارس، قابل نيافته رئيس الوزراء الأردنى وقدم له فى اليوم التالى مذكرة بشأن دير السلطان، معها أربع صور فوتوغرافية لكنيستيه ظاهر بها ما فيهما من كتابات ونقوش قبطية تثبت بجلاء ملكية الدير للأقباط. فى غصون ذلك، كان قد وجه قداسة البابا دعوة لعدد من أراخنة الأقباط للتشاور فى الأمر، فى إجتماع يعقد بالمقر البابوى فى الساعة الرابعة من بعد ظهر الخميس 2 مارس، وانتهى الرأى فى هذا الاجتماع إلى ما يلى:
1- إن ملكية دير السلطان للأقباط، ويجب أن يحتفظوا به كتراث دينى وتاريخى.
2- عرض الأمر على حكومة الجمهورية العربية المتحدة، للتدخل لدى الحكومة الأردنية للعمل على رد دير السلطان لأصحابه الأقباط.
3- توجيه رسالة من قداسة البابا لجلالة إمبراطور الحبشة، وأخرى لغبطة بطريرك جاثليق أثيوبيا لمناشدتهما إعادة الحالة إلى ما كانت عليه، تمهيداً لبحثها فى جو هادئ.
4- إرسال وفد إلى المملكة الأردنية للتشرف بمقابلة جلالة الملك حسين، والمسئولين فى حكومة الأردن، على أن يحمل رسالة شخصية إلى جلالته من قداسة البابا بشأن هذا الموضوع.
5- تأليف لجنة تنفيذية للأشراف على تحقيق ما تقدم.
كذلك إنعقد المجمع المقدس فى 7 مارس، برئاسة قداسة البابا كيرلس السادس، وأيد المجمع القرارات سالفة الذكر، وشكّل اللجنة التنفيذية المشار إليها من أصحاب النيافة الأنبا يوأنس مطران الجيزة والأنبا بنيامين مطران المنوفية والأنبا بطرس مطران أخميم والأنبا ثاؤفليس أسقف دير السريان، ومن السادة: المهندس يوسف سعد وكيل المجلس الملى العام، والمستشار إسكندر حنا دميان، والسفير عدلى أندراوس والسفير ديمترى رزق والأستاذ إستفان باسيلى وكيل نقابة المحامين. وفى اليوم التالى 8 مارس 1961م، إنعقد المجمع المقدس ثانية، وقرر عدم سفر الحجاج الأقباط لزيارة الأماكن المقدسة فى موسم القيامة إحتجاجاً على قرار مجلس الوزراء الأردنى بالإستيلاء عنوة على دير السلطان وتسليمه للأحباش، وتفويض اللجنة التنفيذية المشار إليها فى إتخاذ ما تراه لازماً لإسترداد الدير. وبدأت هذه اللجنة أعمالها بإعداد مذكرة عن هذا الموضوع لرفعها للرئيس جمال عبد الناصر، فتفضل الرئيس بتكليف القائم بأعمال السفارة المصرية فى عمان ببذل كل مساعدة ممكنة، كذلك إتصل بعض أعضاء اللجنة بالمسئولين فى حكومة مصر وقدموا إليهم صوراً من المذكرة. وتقرر تأليف الهيئة التى ستُوفد إلى الأردن للتشرف بمقابلة جلالة الملك حسين والاتصال بالمسئولين فى حكومته، والوفد مكون من: الأنبا يوأنس مطران الجيزة- الأنبا بنيامين مطران المنوفية- الأنبا أنطونيوس مطران سوهاج، ومن السادة: المستشار إسكندر حنا دميان- السفير ديمترى رزق- السيد إستفان باسيلى وكيل نقابة المحامين. هذا وقد أرسل قداسة البابا كيرلس السادس برقية إلى جلالة إمبراطور أثيوبيا بتاريخ 10 مارس سنة 1961م، جاء فيها ما يلى:".... فى الوقت الذى طلبتم جلالتكم وساطتنا الأبوية لحل مشكلة دير السلطان، بوصفنا الرئيس الأعلى للكرازة المرقسية، وبينما كنا نبحث هذا الموضوع بالروح المسيحية، وقعت الأحداث الدامية فى أثيوبيا، فاتجهنا للصلاة للرب من أجل عودة السلام للإمبراطورية، وفجأة علمنا مع أعمق الأسى بالقرار الإداري الذى أصدرته حكومة الأردن، دون سلطان، وخلافاً للقانون بالإستيلاء على دير السلطان وتسليمه إلى الأسقف والرهبان الأحباش، الذين بإستعدائهم هذا خرقوا قوانين الكنيسة وتقاليدها وزادوا المشكلة تعقيداً وعكّروا الجو الهادئ اللازم لتحكيمنا الأبوي، وقد أثار ذلك الأقباط كافة ويُخشى أن يؤدى إلى الإساءة للعلاقات بين أبناء الكنيسة الواحدة ما لم تتداركوا جلالتكم الموقف بحكمتكم وإخلاصكم للكنيسة بإعادة الوضع فى دير السلطان إلى ما كان عليه تحاشياً لتفاقم الأمر وصوناً لوحدة الكرازة وتوطئة لإستئناف المباحثات، وفى إنتظار الرد السريع الحاسم، نرجو الله أن يحفظكم ويلهمنا جميعاً ما فيه الخير للكنيسة...". وجاء رد الامبراطور بتاريخ 15 مارس سنة 1961م، جاء فيه ما يلى:"...تلقيت برقيتكم بخصوص دير السلطان، والموضوع سبق أن أثير أثناء حكم الإمبراطور منيليك، وكذا فى سنة 1924م عندما زرنا القدس، ومع أن المباحثة إنقطعت لفترة قصيرة أثناء الحرب فإنه لم تُتخذ أية خطوات مرضية فى المدى الطويل الذى تلاها، وأقتضى ما لوحظ من عدم الإكتراث بتسوية هذه المسألة اللجوء إلى الإجراءات القانونية، ومادام صدر قرار قانونى فمن الصعب الرجوع عنه. ولو كانت قُدمت فى الوقت المناسب إقتراحات لأجل إجراء التسوية لكان من الميسور إيجاد حلول ودية وتفادى المسلك الذى أُتبع، ومع ذلك فيسرنا أن ننظر فى الخطوات التى قد تُتخذ فى المستقبل...". سافر الوفد القبطي إلى القدس يوم الثلاثاء 21 مارس سنة 1961م، ومنها إلى الأردن يوم السبت 25 مارس 1961م وحوالي الساعة الحادية عشر تلقى نيافة الأنبا باسيليوس إشارة تليفونية من رئيس التشريفات الملكية، بأنه قد تحددت الساعة الثانية عشرة والربع للتشرف بمقابلة جلالة الملك. استقبل جلالة الملك حسين الوفد بحفاوة بالغة، وبدأ الأنبا يوأنس مطران الجيزة الحديث، فشرح مهمة الوفد وذكر أنه يحمل لجلالته من البابا كيرلس السادس كتاباً خاصاً قدمه لجلالته مع المذكرة التى أعدها الوفد بشأن موضوع دير السلطان، وأوضح ما له من أهمية خاصة دينية وتاريخية، وما يعقده الشعب القبطي فى مصر من آمال على جلالته فى إعادة الحق إلى أصحابه، ثم تحدث بعده المستشار إسكندر حنا دميان والأستاذ إستفان باسيلى والسفير ديمترى رزق، فأوضحوا كيف أن مجلس الوزراء الأردنى قد جاوز صلاحياته فى القرار الذى أصدره بالإستيلاء على الدير وتسليمه للأحباش، لأن معاهدة برلين الدولية تحظر المساس بالوضع الراهن Status Quo ، ولأن صك الانتداب على فلسطين جعل النظر فى الإدعاءات والحقوق الخاصة بالأماكن المقدسة من إختصاص لجنة معينة. وهنا قال وزير البلاط الذى كان حاضراً هذه المقابلة، أنه قام بتنفيذ توجيهات جلالته بصدد شكوى نيافة المطران باسيليوس مما أحدثه الأحباش من تغييرات فى الدير بعد إستيلائهم عليه، وإنه كلّف محافظ القدس بأن يمنعهم من إجراء أى تغيير إلى أن يُنظر فى الأمر. وأخيراً تكلم جلالة الملك، فقال أنه أمر بإعادة بحث هذا النزاع، وأضاف بأنه يشرفه هو وأسرته أن يُوكل إليهم حراسة الأماكن المقدسة، وأن من واجب الجميع- مسلمين كانوا أو مسيحيين- أن يتضافروا فى الحفاظ على التراث الدينى، وأكد جلالته أنه لا ينشد سوى أن يأخذ كل ذى حق حقه. وإستغرقت المقابلة حوالى أربعين دقيقة. وفى مساء اليوم نفسه، قابل الوفد رئيس مجلس الوزراء وتحدث معه طويلاً مبيناً أن المجلس لا يملك إصدار أى قرار يغير من الوضع الراهن فى الدير، لأن هذا من حق لجنة خاصة تشرف على تأليفها وتعيين أعضائها هيئة دولية كانت قبلاً جمعية الأمم، فاعترض رئيس الوزراء بغضب قائلاً أنه غير مستعد للمباحثة فى هذا الموضوع إذا أصر الوفد على وجهة النظر هذه، فأجاب الوفد أنه بتمسكه بهذا الدفاع لا يعنى أنه غير مستعد لإستعراض قراراته.