منذ العصور الأولي المسيحية, كان لمصر وللمصريين مكاناً متمازاً في أورشليم ، ففي يوم حلول الروح القدس , في اليوم الخمسين لقيامة الرب يسوع , كان بأورشليم يهود أتقياء " من كل أمة تحت السماء ساكنين في أورشليم , بينهم مصريون وليبيون وقيروانيون آمنوا وأعتمدوا في ذلك اليوم "( أعمال الرسل 2 : 1-41) . ويبدو أن هؤلاء المصريين والقيروانيين كانوا يشكلون جالية كبيرة في أورشليم , بدليل أنه كان لهم مجمع خاص بهم " فنهض قوم من المجمع الذي يُقال له مجمع الليبرتينين والقيروانيين والإسكندريين ..... يُحاورون إستفانوس . ولم يقدروا أن يُقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به ( أعمال الرسل 6 : 9 – 10 ).
وكانت القيروان " سيرين Cirene " _ هي إحدي المدن الخمس _ بنتابوليس_ تابعة لمصر منذ عهد بطليموس الأول ( 321 ق.م.) ، وظلت كذلك زهاء قرنين ونصف . كما أن أسرة القديس مار مرقس الرسول , كانت من يهود القيروان , وعلي أثر إغارة بدو الصحراء على مدينتهم و تخريبها و نهبها ، نزحوا إلى أورشليم ، وربما كان إنتماء أسرة مارمرقس إلي المدن الخمس , سبباً في وقوع إختياره علي الأسكندرية لتكون مركزاً لكرزاته .
وكانت هناك أسر أخري نزحت من القيروان إلي أورشليم , نذكر منها أسرة سمعان القيرواني , التي يحتمل أنها كانت علي صلة بأسرة مار مرقس بحكم إنتمائهما إلي موطن واحد وهذا ما جعل مارمرقس ينفرد دون غيره من الإنجيليين بذكر بعض إيضاحات عن أسرة سمعان القيرواني ( مرقس 15: 21 ). كذلك أسرة " لوكيوس القيرواني " , الذي قال عنه سفر الأعمال أنه كان من المعلمين في أنطاكية ( أعمال الرسل 13 : 1 – 2 ) , حيث كان يوجد رجال قبرسيون وقيروانيون الذين لما دخلوا أنطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع " ( أعمال الرسل 11: 20 )
أما أبولوس الإسكندري , فهو أعظم من ظهر من أبناء مصر في عهد الرسل, وقد وصفه سفر الأعمال قائلاً : " أبلّوس ، إسكندري الجنس , رجل فصيح مُقتدر في الكتب . كان هذا خبيراً في طريق الرب . وكان وهو حار بالروح يتكلم ويُعلّم بتدقيق ما يختص بالرب " ( أع 18 : 24 – 25 ). ومن هؤلاء وأمثالهم ممن آمنوا وإعتمدوا في يوم الخمسين أو بعده , تكونت النواة الأولي لطائفة المصريين المسيحيين في الأرض المقدسة . ولم يلبث أن إنضم إليها مصريون آخرون كانوا يترددون علي أورشليم ثم آثروا الإقامة فيها.
ويبدو أن تردد المسيحيين من المصريين وغيرهم علي الأرض المقدسة , كان قد إنقطع بعدما دخل تيطس أورشليم وحرقها سنة 70 ميلادية , وكانت زيارتهم لها قليلة بعدما بني هادريان علي أنقاضها مدينة رومانية أسماها " إيليا كابتولينا " , وأقام معبداً لفينوس علي موضع الجلجثة , فتوارت عن الأنظار معالم المواضع المقدسة , ولم يعد هناك ما يُحفز المسيحيين علي زيارة أورشليم.
وبعد زيارة الملكة هيلانة لأورشليم وعثورها علي خشبة الصليب المقدس ( سنة 326م) ، شرعت في بناء كنيسة القيامة , وعند تدشين الكنيسة سنة 335م , إشترك البابا أثناسيوس الرسولي _ البطريرك القبطي _ مع بطريركي أنطاكية والقسطنطينية , في صلاة التدشين , ومن هذا الوقت ، بدأ المسيحيون من كافة الأقطار يتوافدون لزيارتها , بينهم أعداداً كبيرة من الرهبان القبط , أشارت إليهم وثيقتان يرجع تاريخهما إلي ما بعد مرور نصف قرن من تاريخ تدشين الكنيسة:
1- خطاب مُرسل من باولا الرومانية التي حجت إلي أورشليم في سنة 386م إلي صديقتها مارسيللا بروما ، ذكرت فيه مصر ضمن البلاد الممثلة في المدينة المقدسة: Aubery, " Letter of Paula and Eustachium " "
2- الوثيقة الثانية معاصرة للأولي , عنوانها " حاجة أتريا " ، وهي تشير إلي وجود عدد كبير من رهبان مصر وطيبة بالأماكن المقدسة:
Benard ,The Pilgrimage of st . Slivia to the Holy places
وحوالي سنة 384 م ، لجأ إلي القدس أربعة رهبان أقباط عرفوا ب " الأخوة الطوال" ثم وفد عدد يقدر بحوالي الخمسين من رهبان وادي النطرون سكن بعضهم في مخادع كنيسة القيامة:
Butcher ," The history of the church of Egypt "
ولم تكن زيارة أورشليم مقصورة علي الرهبان بل شاركهم في ذلك أفراد من الشعب , يحدوهم الأعتقاد بأن زيارة الأماكن المقدسة تطهرهم من الأوزار , فعلي سبيل المثال مريم المصرية التائبة , التي ذهبت إلي أورشليم سنة 382م , وقد خلّد المسيحيون ذكر هذه القديسة المصرية ببناء كنيسة علي إسمها ملاصقة لكنيسة القيامة في المكان الذي لجأت إليه باكية نادمة.
مما سبق يتبين لنا ، أن الأقباط كانوا منذ القرنين الثالث والرابع يحجون إلي الأرض المقدسة أفراداً وجماعات , ورهباناً وشعباً , وإستمر ترددهم عليها في القرنين الخامس والسادس , وأستوطن البعض منهم في أورشليم , وبنوا كنائس وأديرة كثيرة لهم .